لا شكَّ أن الرقابة على المطبوعات في العالم العربي موضوع إشكالي يحتاج إلى كثير من النقاش، وغالباً ما تتسم الرقابة بطابع تعسّفي، كما يبين الآن النقاش الدائر حول منع الكتب في معرض الكويت الحالي للكتاب، وقبله في معرض الخرطوم، وطرق التعامل مع الكتاب بشكل عام في كثير من الدول العربية.
ويبدو أن الحياة العربية تُعاش كلها تقريباً في جوٍّ من الرقابة، فالرقابة قد تكون سياسية وقد تكون اجتماعية، وهي في الأساس رقابة على الحريات، وعلى الجسد، أي على الحياة، ومن ذلك تتفرع أنواع الرقابات لتطال الكتب وغيرها.
منعتْ السلطات السودانية في معرض الخرطوم للكتاب بعض الكتب، ووصلنا أن معرض الكويت للكتاب منع 250 كتاباً منها 50 كتاباً لـ “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، و23 كتاباً لـ “دار الأمير”، منها 14 كتاباً للمفكر علي شريعتي، وهلمجرّا.
وقد حدث هذا معي أنا شخصياً حين شاركتُ مرة من خلال وكيل ( كدار بدايات) في معرض الكويت منذ عدة سنوات، إذ طال المنع 60٪ من الكتب التي أرسلتها بدون أي مبرر، ومن كتبي المترجمة والمطبوعة لدى دار الطليعة أذكر أن كتاب “ذاكرة النار” لإدواردو غاليانو مُنع من المشاركة في معرض الكويت دون توضيح السبب، مع كتاب “الصراع بين الدين والعلم” لبرتراند رسل.
وأذكر حادثة رقابية جرتْ معي مرة في سوريا وهي أنني أعدتُ منذ أكثر من ثماني سنوات نشر ديوان الشاعر أدونيس “أوراق في الريح” في طبعة جديدة، وكان عليَّ أن أقدمه للرقابة كي أحصل على الموافقة لطباعته، فأحالته وزارة الإعلام إلى اتحاد الكتاب العرب حيث كُلِّفَ عضوٌ شاعرٌ بقراءته ومراقبته، فجاءت الموافقة موقّعة ومختومة رسمياً بالسماح بطباعة الكتاب ولكن شرط أن يحذف الشاعر منه بعض القصائد، رغم أن الكتاب كان وقتها مطبوعاً عدة طبعات، منها طبعة في سوريا عن دار المدى، ضمن الأعمال الكاملة، وكان موجوداً في معظم مكتبات دمشق والمحافظات الأخرى. وهذا مثال بسيط من أمثلة كثيرة يعرفها المتابعون لهذه المسائل جيداً.
لا شك أن الإعلام العربي، وأعني هنا الإعلام المموَّل، من غير المسموح له أن يناقش موضوعات كهذه بطريقة عميقة مؤثرة في الرأي العام، ولكن الإعلام الاجتماعي صار قادراً على أن يسلط المزيد من الأضواء على ظواهر كهذه، إلا أن هذا الإعلام، كفضاء لتعدد الآراء، قد يقسم الجمهور بين مؤيد ومعارض للرقابة، وثمة من يذهب إلى أن فرض الرقابة ضرورة، وخاصة في هذا العصر الذي صار يسرب تأثيراته حتى عبر الجدران الكتيمة.
غيرأن طرق العلاج عبر المنع غير مجدية، وفي المثل الشهير“ كلّ ممنوع مرغوب” ما يؤيد ذلك. وفعلاً إن الكتب التي تُمنع، في العالم العربي، هي التي تقول شيئاً خارجاً عن المألوف، هي الكتب العمودية التي يحتاج إليها القارئ العربي، فيما الكتب الأفقية المقبولة صارت مُتّكأ الذائقة التقليدية المحروسة رقابياً. أعي التعميم الكامن في هذا الكلام، ولكني لا أخصُّ هنا كل الكتب سواء في مجالات الأدب أو علم الاجتماع أو الفلسفة والأنثروبولوجيا، ولكنني أقصد أنه إذا مُنعت الكتب التي تبحث فيما هو محرّم، وتستجوب ما هو ممنوع ومحروس ومخفي بإحكام، فإن القراء لا شك سيخسرون مدخلاً ما إلى الحقيقة.
إن الرقباء، ولي تجربة معهم، يمنعون الكتاب بسبب الاسم، وفي أحيان أخرى بسبب الخلفية، وفي معظم الأحيان لستُ متأكداً إن كانوا يقرأون الكتب التي يمنعونها، وغالباً ما يحتجون بأن سبب المنع هو “إمّا التحريض على النظام العام، أو مخالفة الآداب العامة”، أو إثارة الفتنة، أو إضعاف نفسية الأمة، أو الإساءة إلى الدين.
وإذا كانت السلطات المسؤولة عن الرقابة تعرف أن ما يُمنع يصل عبر طرق أخرى، إذاً لماذا لا تفكر بطرق أكثر حضارية، وتترك القانون يلعب لعبته في هذا المجال، بمعنى إذا استاء طرف من الأطراف من كتاب فليلجأ إلى القانون، ولكن ليس إلى قانون ملعوب به من أجل المعتقد العام أو الصالح العام المسيّس وإنما القانون النزيه وغير المتحيز.
إن الرقابة كما تتجلى عربياً هي إجراء سلطوي بحت لحماية الامتيازات السلطوية، والمتكآت التقليدية للسلطة، ولا تتعلق أبداً بحماية الأجيال على اختلاف مشاربها أو الحفاظ على الأخلاق العامة وغير ذلك، إذ متى كانت السلطات تهتم بما يتعدى آليات تثبيت العروش بمسامير الأبدية، ومتى كانت تحرص على تقديم ثقافة “نظيفة” لشعوبها؟ غير أنها، وبفرضها للرقابة على الروايات والدراسات النقدية والأبحاث الجدية التي تتناول المكبوتات والمحرمات العربية، فإنها بذلك تزيد من انتشارها، ودون أن تعي، تخلخل قليلاً براغي ومسامير الكراسي والعروش.